هذا هو حال الصراع على الوظائف بين البشر والآلات؛ فالذكاء الاصطناعي قد جعل المنافسة بين الكادر البشري والآلي في أوجها، بسبب الدقة والإتقان اللذين تقدمهما الآلة، فضلاً عن كونها معصومة عن بعض الأخطاء البشرية، الأمر الذي يهدد فعلاً المستقبل المهني لمعظم الموظفين.
لكن لا تخف، ثمة وظائف لا يمكن للذكاء الاصطناعي القيام بها مهما بلغ به التقدم والتطور، فإذا ما كنت تريد كشف طالع مستقبلك المهني، أو ترغب في اختيار مهنة مستقبلية آمنة من غزو التكنولوجيا، تفضَّل بقراءة هذا المقال عن وظائف لا يمكن للذكاء الاصطناعي القيام بها.
وظائف لا يمكن للذكاء الاصطناعي القيام بها:
فيما يأتي قائمة ببعض الوظائف التي ستبقى بمأمن عن اجتياح الذكاء الاصطناعي والآلات للحياة المهنية للبشر، فلنستعرضها معاً:
1. البرمجة:
إذا كنت مبرمجاً أو ترغب في تعلُّم البرمجة نطمئنك بأنَّ هذه الوظيفة من ضمن قائمة وظائف لا يمكن للذكاء الاصطناعي القيام بها، قد تبدو مفارقة غريبة بأنَّ الوظيفة التي خلقت مجال الذكاء الاصطناعي ستبقى بعيدة عن متناول يده، لكن هذه هي الحقيقة.
هل لنا أن نتخيل أن يعطي البشر للآلات ميزة البرمجة واختلاق البرامج والتطبيقات؟ الأمر أشبه بالسماح لمجموعة فيروسية بالتكاثر والانشطار بعيداً عن أيَّة ضوابط، إنَّها حالة تضع البشرية كلها _ وليس فرص العمل فقط _ تحت خطر محدق.
من الأسباب التي تعوق امتلاك الذكاء الاصطناعي القدرة على البرمجة هي افتقاره للإرادة الحرة، هذا الشيء الذي يعجز البشر حقاً عن زرعه في أيَّة آلة، وإنَّ كل ما نراه من مواقف ذكية تقوم بها روبوتات الذكاء الاصطناعي مجرد تلقين؛ فعلى سبيل المثال إذا قلت للروبوت “Hi” فإنَّه سيرد عليك بمجموعة إجابات لُّقِن إياها مسبقاً ليختار عشوائياً إجابة منها مثل “Hi ,Hello, Hey what’s up”، وغيرها من الاحتمالات التي تجعلك تظن أنَّ الروبوت يجيبك حقاً.
إنَّ آلية عمل الربوتات والذكاء الاصطناعية معتمدة على مجموعة من الدوال والقواعد المضبوطة التي لا تملك الآلة أيَّة إرادة حرة للاختيار بينها أو التعديل عليها؛ إنَّما تستجيب لها فقط وفق ما بُرمجت عليه؛ لكن من الجدير بالذكر أنَّ الذكاء الاصطناعي يستطيع القيام بمهمة البحث عن الأخطاء البرمجية البشرية وتصحيحها، كونه يقوم بمقارنة الكود المقدَّم له بالكود الذي يختزنه في ذواكره، فيكتشف بذلك موضع الخلل ويشير إليه ويصححه، عدا عن ذلك، فإنَّ الروبوت هو عبارة عن وعاء كبير من المعلومات، وقاعدة بيانات كبيرة يملؤها موظف بشري، قادر على الشعور بالحزن والغضب والفرح والإرهاق، الأمر الذي لا تمتلكه _ ولن تمتلكه _ الآلة يوماً.
أتذكر في هذا الصدد مقطع فيديو شاهدته بالأمس لروبوت في أحد المعارض العالمية يدعي الشعور بالوخز إذا ما لمسته، يطبق جفنيه ويعقد حاجبيه ويحرك شفتيه كأنَّك وخزته حقاً، قد يبدو لنا فعلاً بأنَّه يشعر بذلك؛ لكنَّ الأمر برمته منسوب إلى عبقرية المبرمج وانتباهه إلى تفاصيل لغة جسد الإنسان في تلك اللحظة، ليقوم بتطويع التكنولوجيا لتجسيدها بمثل هذه الحرفية العالية.
2. الكتابة الإبداعية والترجمة:
تُضاف كل من الكتابة الإبداعية والترجمة إلى قائمة وظائف لا يمكن للذكاء الاصطناعي القيام بها، فعلى الرَّغم من قدرة الإنسان على حشو ذواكر الآلات والتطبيقات بالكلمات، وعلى الرَّغم من قدرته على تدبير خوارزمية ما تساعد الآلة على تكوين جملة مفهومة، إلا أنَّ الذكاء الاصطناعي قاصر عن مواكبة التحديثات المستمرة على اللغة، والتراكيب الجديدة التي تستخدم فيها كل يوم، سواء في عمليات الترجمة أو التأليف.
كما أنَّ الذكاء الاصطناعي يعجز عن رصف الكلمات بأسلوب إبداعي يعبِّر عن التخيلات والتصورات والمجازات، فهو يفتقر إلى الموهبة التي تجعل الكاتب المبدع يتفرَّد عن أقرانه، والأسلوب الذي يمنح كل كاتب أو مترجم يتميز عن غيره.
تبدو محدودية قدرات الذكاء الاصطناعي واضحة في المترجمات، مثل مترجم غوغل، فهي تستطيع إعطاء مرادف لغوي لكلمة ما بلغة مختلفة، لكنَّ الأمر يزداد تعقيداً وركاكة في حالة المصطلحات والحوارات، والاختصارات التي يستخدمها العامة في أحاديثهم اليومية.
أما من ناحية ألوان الكتابة الإبداعية، فإنَّ الذكاء الاصطناعي بعيد عن ألوان الأدب من شعر ونثر، ومهما أدخلت فيه برمجيات تعلمه ضبط الوزن الشعري مثلاً والبحور، فإنَّه سيعجز عن رصف كلمات ذات معنى تلائم الوزن وتنتج قصيدة عمودية، ومن المستحيل أن يستطيع الذكاء الاصطناعي تأليف سيناريوهات مسرحية وتلفزيونية بأحداث وشخصيات ذات أبعاد متمايزة.
3. مجالسة الأطفال وكبار السن:
إنَّ مهنة جليس الأطفال أو المسنين تندرج ضمن قائمة وظائف لا يمكن للذكاء الاصطناعي القيام بها، كون هاتين المهنتين لا تقومان على خوارزميات محددة؛ إنَّما هما استجابة لاحتياجات الطفل أو المسن؛ إذ يقوم من يؤديهما بتلبية متطلبات الشخص الذي يجالسه، والتي تكون غير منتظمة وغير روتينية، الأمر الذي يصعِّب أداء مثل هذا النوع من المهام بالنسبة إلى الذكاء الاصطناعي.
على الرَّغم من أنَّ الذكاء الاصطناعي استُخدِمَ في بعض المطاعم لتقديم الطعام للزبائن، إلا أنَّ الأطفال وكبار السن يحتاجون إلى معاملة خاصة لا تتوقف عند تقديم الطعام لهم؛ بل تشمل تغيير الملابس وقت الحاجة، والخروج في نزهة، وتبادل الأحاديث، والاستجابة لطلباتهم الأمر الذي لا يمكن برمجته لشدة تعقيده وتشعبه.
4. الاختصاصيون النفسيون والاجتماعيون:
إذا كنت اختصاصياً نفسياً أو اجتماعياً أو مدرب حياة “لايف كوتش” فنطمئنك بأنَّ وظيفتك موجودة ضمن قائمة وظائف لا يستطيع الذكاء الاصطناعي القيام بها، وتُعدُّ هذه الوظائف ذات خصائص فردية معقدة، فكل حالة لها خصوصيتها في الأعراض والأسباب والنتائج؛ وذلك بسبب الاختلاف اللانهائي في الطبائع البشرية؛ إذ من المستحيل أن نجد أشخاصاً متوازنين يتصفون بالطباع ذاتها بنسبة متطابقة، فكيف حال الأمر بالنسبة إلى من يعاني خللاً في توازنه؟
على الرَّغم من وجود خطوط عريضة وتصنيفات عامة للاضطرابات النفسية والسلوكية، إلا أنَّ أداء مهمة إعادة التوازن وتقديم النصح والإرشاد أمر من المستحيل أن تقوم به الآلة المبرمجة بالذكاء الاصطناعي، وإنَّه وإن حدث ذلك ستكون حلولها قاصرة وغير مُجدية مبنية على “كليشات” جاهزة وعمومية لا تتناسب مع خصوصية كل حالة.
في تجربة نيوزلندية صُمِّم فيها روبوت سُمي “نادية” لمساعدة ذوي الاحتياجات الخاصة، سُجِّل فشل الذكاء الاصطناعي في تقديم الدعم النفسي والمعنوي للأفراد؛ وذلك بسبب افتقار الآلة إلى الذكاء العاطفي الذي يمكِّنها من التعامل مع كل حالة من حالات الشعور الإنساني، وانعدام قدرتها على ترتيب الأولويات بحسب متطلبات كل حالة تتطلب الدعم.
إذا ما كنت تشعر بالحزن مثلاً، فإنَّ الروبوت سيكون عاجزاً عن إدراك شعورك وتقديم التعاطف والمساندة اللازمين، إلا إذا ما قمت بلفظ كلمة تُعدُّ من المدخلات التي تكون مخرجاتها أفعال وعبارات التعاطف، وبالتأكيد فإنَّ هذا النوع من الاستجابة المفتقرة للاحتواء غير فعَّال بالنسبة إلى الروبوت الآلي.
5. الفن والتصميم:
تُعدُّ كل من وظيفتي الفنان والمصمم من الوظائف الآمنة من غزو الآلة، فهي ضمن قائمة وظائف لا يمكن للذكاء الاصطناعي القيام بها؛ إذ يُعدُّ الفن واحداً من الفنون الإبداعية التي تعبِّر عن مكنونات النفس البشرية باستخدام الريشة واللون، الأمر الذي لا يستطيع الذكاء الاصطناعي القيام به لما فيه من فيض أحاسيس ومشاعر تنبثق مع كل مرور للريشة الممسوكة بيد بشرية.
قد يقول بعض الناس رأينا روبوتات ترسم لوحات فنية باستخدام الفرشاة، فنقول لهم هذا صحيح، لكن هذه الروبوتات قد لقنت تفاصيل هذه اللوحة تلقيناً، وإنَّ عملها ولو بدا رسماً ليس أكثر من طباعة مكررة تفتقد إلى أبسط مقومات الإبداع مهما بدت متقنة.
يُعدُّ التصميم أيضاً من الوظائف التي لا يستطيع الذكاء الاصطناعي القيام بها، لما فيه من تفكير خارج الصندوق تفتقر إليه الآلة، ونشير إلى أنَّ الذكاء الاصطناعي قادر على تنفيذ التصاميم إذا ما بُرمِج؛ لكنَّها بالتأكيد لن تكون إبداعية.
6. الفلسفة والإرشاد الروحي:
إنَّ مهنة الفيلسوف الواعظ والمرشد الروحي من المهن التي لا يمكن للآلة أن تستحوذ عليها، فهي وبكل جدارة في قائمتنا عن وظائف لا يمكن للذكاء الاصطناعي القيام بها، وتتطلب الفلسفة التأمل في عمق الأشياء والأحداث والأقوال، لتستنبط الحكم والمواعظ التي تحسِّن حياة الآخرين.
كما يتطلب الإرشاد الروحي التغلغل في قلب الآخر من أجل التأثير في نواياه وإرشادها إلى مواطن الخير والصلاح، الأمر الذي يتطلب تفاعلاً نفسياً وعاطفياً وروحانياً بين المرشد والشخص الذي قصده طالباً التنوير والهداية، وهذا بالتأكيد ما لا تستطيع الآلة أن تقوم به، فحتى البشر أنفسهم ليسوا جميعاً مؤهلين للقيام به.
في الختام:
مهما بلغت التكنولوجيا والآلة والذكاء الاصطناعي من مراحل متقدمة، إلا أنَّها تبقى صنيعة الإنسان ويبقى هو القائد في رحلة التطوير والتقدم، ومهما بلغ الإنسان في عبقريته فإنَّه – حاشا لله – لن يتفوق على خالقه، وعليه فإنَّ الكائن البشري معجزة إلهية غير قادرة على استنساخ نفسها مهما جهدت في ذلك.
لقد قدَّمنا في هذا المقال مجموعة من الوظائف التي تحتاج إلى القدرات البشرية الممنوحة من الخالق، هذه المهام الإنسية البحتة، والوظائف التي لا يمكن للذكاء الاصطناعي القيام بها.
اكتشاف المزيد من مباشر التقنية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.